مقالات واراء

دفتر أحوال الجامعة المصرية (5).. استراتيجيات التعليم : مصطفى الضبع

في سبيل تطوير الأداء والخروج من حالة الجمود أو ما يؤدي إليه، راح العالم يبتكر طرائق متعددة للتعلم (استراتيجيات) من شأنها التوصل لمستوى أعلى في الأداء وتحقيق التنمية المستدامة في العملية التعليمية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما فتحت المؤسسات التعليمية المجال للمعلم أن يبتكر استراتيجياته الخاصة مع طلابه وفق طبيعة المقررات ومستوى الطلاب وخبرات المعلمين وهو مالم تشغل جامعاتنا نفسها به، ولم يحاول بعض الذين عملوا بالآلية نفسها يوما في جامعات عربية أن يطبقوا التجربة أو ينقلوا خبراتهم لصالحها.

 الإستراتيجية ببساطة تعني استخدام الوسائل لتحقيق الأهداف، الوسائل المتاحة والممكنة والأهداف غير المستحيلة، فالمستحيل ابن الجمود، والممكن ابن الحركة والمرونة، الإستراتيجية ليست حكرا على نشاط إنساني دون غيره فليست الإستراتيجية مصطلحا جامدا لم يقف عند حدوده الأولى (بدأ مصطلح الإستراتيجية في المؤسسة العسكرية غير أنه وجد مجالاته الخصبة في كل ماينشط فيه الناس في التعلم واللعب والإنجاز متحققا في أمور يعتقد أنصار الجمود فقط إنه لا علاقة بينه وبينها).
ابتكار الإستراتيجيات وتطبيقها لا يتطلب ميزانيات وإنما يحتاج عقول نشطة تمتلك إرادة الإنجاز، لذا ابتكر العالم ومازالت عشرات الإستراتيجيات للتعلم والتعليم ، محققا نتائج كان من المفترض أن تغري المعلمين وتستقطب المتعلمين للعمل بها ومحاولة ابتكار أمثالها ، تأمل هذه الإستراتيجيات تجدها بسيطة الطرح متنوعة طرائق الأداء:
العصف الذهني – العمل الجماعي – المناقشة – الخرائط المفاهيمية – التعلم بالتحليل – التعلم النشط – التدريس الاستقرائي – حل المشكلات – الاستكشاف – الدراما – التدريس عن بعد – الخيال العلمي – القصة – الورشة – البطاقات المروحية – الرؤوس المرقمة – لعب الأدوار – فرز المفاهيم – اسأل تعرف – التدريس التبادلي – التعلم بالتعاقد – القبعات الست – مثلث الاستماع- الكرسي الساخن ….إلخ
فيما يعدها العالم كله (باستثناء جامعاتنا طبعا) الوسيلة الأكثر حيوية للمتعلم والمعلم على حد سواء ، وفيما يتوسع العالم ومؤسساته التعليمية في التحرك بين التعليم والتعلم وابتكار استراتيجيات من شأنها تطوير الأداء تحقيقا لغايات سامية تستثمر طاقات المتعلم وقدرات المعلم، تعتمد جامعاتنا (في العلوم الإنسانية خاصة) على آلية التلقين في إخلاص غريب ونادر لما يسمى بالمحاضرة التقليدية، أستاذ في مدرج (يتجاوز أعداد الطلاب في المحاضرة الواحدة الألف أو أكثر أحيانا)، تنتصر جامعاتنا في العلوم الإنسانية للتلقين بوصفه الوسيلة الأكثر رسوخا يستنيم إليه الأستاذ طلبا للراحة (راحته أولا وراحة ضميره المتناوم ثانيا وراحة المؤسسة الداعمة لكل ماهو راسخ منذ مرحلة ما قبل الكتاتيب).
إن أسئلة تفرض نفسها طوال الوقت: من متعلم آمن بقدرة الجامعة على تعليمه بطريقة عصرية (يراها في كليات علمية نقلا عن زملاء في كليات من هذا النوع) ، متعلم يعيش مع موبايله أو كمبيوتره أو فضائياته عصر التكنولوجيا والسماوات المفتوحة والانفجار المعرفي ، ومن أجيال ترى طفرة حضارية في كل أركان المعمورة باستثناء مؤسسات مسؤولة عن وضعها على الطريق الصحيح نحو المستقبل، أسئلة من شأنها تقويض عملية التعليم وإحداث شروخ واضحة بين نقطتين يتحرك بينهما المتعلمين : المؤسسة التعليمية والمؤسسة الاجتماعية ، تقترب الثانية من التكنولوجيا بالقدر الذي تبتعد فيه الأولى ، غير أنها ( الثانية ) تقدم معرفة غير منظمة من المنطقي مسؤولية المؤسسة الأولى عن تقديمها ( آلاف من الطلاب يتعاملون مع تطبيقات الكمبيوتر والموبايل دون إتقان لاعتمادهم على معرفة غير منظمة وغير شاملة وغير قائمة على أسس علمية).
في الألفية الثالثة يوظف المعلم معرفة المتعلمين بتطبيقات الموبايل في إثراء معارفهم مما يؤدي لتخليصهم من مفهوم يقوم على فكرة راسخة أن تطبيقات التكنولوجيا تستهدف الترفيه فقط، وهو المفهوم الأشد خطورة في ثقافتنا العربية المعاصرة.
فيما راح العالم يتفنن في استحداث طرائق التعليم متخليا عن الطرائق القديمة، وناسفا المفاهيم التقليدية البائدة في التعليم تلك التي لم يعد العالم المتحضر يرتضيها للأجيال ولم تعد الأجيال تعتمدها وسيلة لتحقيق أهداف تناسب العصر ، في هذا الوقت تقف جامعاتنا موقف المتفرج دون محاولة تطوير لوائحها أو تغيير مفاهيمها بالقدر الذي يسمح للمتطلعين للتطوير من الأساتذة أن يعملوا تحت غطاء من القوانين الواقية من الفوضى ، ويحفز المترددين للإقبال على التطوير والتحديث ، ويوقف الذين يميلون لوضع العقبات عند حدود تفكيرهم العقيم .
إن مساحات شاسعة بين جامعاتنا ومعظم جامعات العالم في التحديث والتطوير وليس أدل على ذلك من أن الكثير من جامعات العالم اعتمدت مفاهيم الجودة لإحداث طفرات جينية في تطوير نفسها وبرامجها ولتكون الجودة عندها بمثابة الحقيقة الواقعة التي تفرض ثقافتها وتحقق نتائجها، في الوقت الذي حصرنا فيه أنفسنا في مفهوم واحد لا ثاني له رافعين شعار: الجودة تستيف أوراق ولم نحصل منها سوى الاسم فقط لنحول الجودة إلى مجرد شعارات.
يضاف إلى ذلك أن جامعات العالم اعتمدت على تحقيق الجودة من البنية الأصغر حجما (القسم العلمي) إلى الأكبر حجما (الكلية) مما جعل من الأقسام كيانات فاعلة انطلاقا من يقينها أنها كيان مستقل من حقه تحقيق ذاته، خلافا لما اعتمدناه من اتخاذ الكلية (وليس القسم العلمي) وحدة لتحقيق الجودة، وهو ما أدى إلى ذوبان الكيانات العلمية الحقيقية (الأقسام) في الكيان الكبير (الكلية) ثم الأكبر(الجامعة) .
الصيغة الأولى تتناسب تماما مع خصوصية الأقسام ،فالقسم العلمي هو البنية الأقوى وهو الأساس علميا وكلما صعدنا للكيانات الأعلى تتضاءل فاعلية القسم ، حيث الكلية التي تضم عددا من الأقسام تعني أنها تضم عددا من التخصصات ومن المنطقي ألا تتحقق الجودة في كل الأقسام بالمعايير نفسها فلكل قسم معاييره الخاصة ولكل منها نظام جودته ، وعندما بدأنا من الأعلى انتهينا إلى تذويب خصوصية الأقسام مما أنتج خليطا من علوم فقدت شخصياتها لأننا لم نفكر بطريقة منطقية تؤكد أن قوة الكلية هي ناتج جمع قوة الأقسام العلمية وإلا فلا قوة لكلية ضعيفة الأقسام .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى