مقالات واراء

تأملات معاصرة فى فريضة الحج .. أحمد عبدربه

.

هى الأمنية الكبرى لملايين المسلمين حول العالم. هى الفريضة التى يتوق إليها كل مسلم ويسعى جاهدا لأدائها يوما ما! أن تحصل على لقب «حاج» أو «حاجة» هو أمر مبهج وله هيبة ووقار وتأثير فى مجتمعاتنا، بل وفى العديد من الدول الإسلامية غير العربية فى جنوب آسيا والغرب الإفريقى مثلا فإن اللقب تحول إلى اسم تمنيا للمولود بتحقيق الفريضة يوما ما فى الحياة.
منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية فى عشرينيات القرن الماضى، افتقد المسلمون المركز السياسى لأول مرة منذ دولة المدينة، لكن ظلت «مكة» مركزا دينيا لكل المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم أو أعراقهم، نحو مليونى مسلم قاموا بالحج هذا العام، مشهد مهيب لهؤلاء الملايين وهم يؤدون المناسك فى الوقت ذاته وبالطريقة ذاتها، مشهد يحافظ على الوحدة الروحية للمسلمين بعد أن انتهى أى معنى لوحدتهم السياسية وربما أيضا الثقافية!
قبل عدة عقود، لم يكن المسلم فى حاجة إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول أو تصريح للقيام بمناسك الحج، فلم تكن الدولة الحديثة قد تطورت بالقدر الذى نشهده الآن مشيدة الحدود وضابطة للدخول والخروج لمواطنيها وغير مواطنيها، لكن بعد الحصول على الاستقلال وتعريف الحدود القومية أصبحت المسألة لها تنظيم خاص، فكل راغب فى الحج فى حاجة إلى الدخول فى إجراءات طويلة للحصول على تأشيرة الدخول للملكة، هذا طبعا بفرض أنه تمكن من تدبير المبلغ اللازم للحج، وهو المبلغ الذى أصبح لا يطيقه سوى الأغنياء، وهكذا تعقد الموقف بالنسبة للراغبين فى أداء هذه الفريضة العظيمة.
***
بسبب هذين العاملين المتشابكين ـ أى العبء المادى والإجراءات الإدارية للحصول على تأشيرة الدخول ـ أصبح هناك ظاهرتان سلبيتان تتنافيان مع معنى العدل والمساواة التى يدعو إليهما الإسلام، فأصبح أولا من سلطة المملكة منح تأشيرات الحج مباشرة لبعض الزوار أو الضيوف أو المقربين، وأصبح هذا الإجراء سياسة ثابتة كل عام، عن طريق دعاوى مباشرة لبعض الشخصيات التى تروق للسلطات، أو عن طريق توزيع حصص «كوته» للتأشيرات على بعض المؤسسات الحكومية، والتى تقوم بدورها بتوزيع هذه الحصص بشكل مباشر على من يروقهم بالضرورة من المقربين، وهكذا تحول الحج من فريضة للتطهر والعبادة والعودة الروحية إلى الله، إلى عملية محاصصة تخضع لاعتبارات الولاء السياسى وتبادل المنافع وغيرها من الاعتبارات الدبلوماسية والاجتماعية والاقتصادية الأخرى!
أما الظاهرة السلبية الثانية، فقد تمثلت فى قدرة قلة قليلة من المسلمين الأثرياء على أداء الفريضة العظيمة بشكل متكرر ومنتظم فى مقابل حرمان الملايين من القيام بالفريضة نفسها ولو لمرة واحدة فى الحياة! حج سريع ومرفه لقلة ثرية أو لمجموعة مرضى عنها سياسيا، فى مقابل تأشيرات محدودة توزع بالقرعة على ملايين الراغبين والراغبات، وعشرات إن لم يكن مئات الآلاف منهم ينتظرون نصيبهم كل عام فى القرعة والذى قد لا يأتى أبدا!
انظر حولك على بعض سعداء الحظ من المسافرين للحج! عدد ليس بقليل من أناس فقدوا ضمائرهم، عدد ليس بقليل من الوجوه الفاسدة والمفسدة سياسيا وماليا واجتماعيا، يلبسون ملابس الإحرام ويتباهون وهم فى طريقهم لأداء المناسك، فهل هذا هو العدل والمساواة المنتظرة؟ ألم يستوقف أحد الأخبار المتواترة حول الحصول على تأشيرات الحج فى شكل رشوة؟! هل نغض الطرف عن كل هذه المآخذ على نظام الحج المعاصر درء للسلامة وخشية من الفتنة ؟!
***
الفهم الإسلامى العام بأن الحج يغسل الإنسان من كل ذنوبه ويرجع الحاج «كيوم ولدته أمه»، يجب أن يعاد فهمه وتدبره، بأن يتم هذا الربط بين الفريضة وغفر الذنب بأن تكون الوسيلة إلى الحج نفسها نزيهة وعادلة! أما فى كونها نزيهة، فهذا أمر يعود للإنسان الذى ينوى القيام بالفريضة، ماله حلال، ووسيلته مشروعة، أما فى كونها عادلة، فهو أمر يعود إلى السلطات المعنية بنظام التأشيرات، فلو لم تراجع السلطات الآلية غير العادلة لتوزيع التأشيرات، وفى مقدمتها سلطة الدولة المضيفة فى هذا الأمر، فهذا من شأنه تثبيت هذه الأوضاع غير العادلة وتحويل الحج إلى طقوس مظهرية وإلى ولاءات سياسية بدلا من كونه عبادة ومناسك!
هنا لابد من استدعاء دور الأزهر الشريف ودار الإفتاء، فعليهما قيادة حركة تصحيحية بالضغط على السلطات من ناحية من أجل نظام أفضل لمحاصصة التأشيرات من ناحية، ووعظ الأثرياء من ناحية أخرى، فإن لم تنتصر المؤسسات الدينية للمقاصد العليا للشريعة ولمبادئ الإسلام، فإنها ستكون متورطة فى هذه الإشكالية التى تضرب معنى هذه الفريضة المهمة!
كذلك أتصور أن وزارتى التضامن الاجتماعى والداخلية عليهما مراجعة قواعد القرعة بشكل دورى للتأكد من سلامة إجراءاتها مع ضرورة الانحياز للطبقات الأقل حظا فى الحصول على هذه الفرصة! أما المملكة العربية السعودية فعليها مراجعة الرسوم التى تفرضها على هذه الفريضة، مع إعطاء تسهيلات وحصص أكبر للمسلمين الفقراء عبر العالم، ولو بتوجيه كوتة مخصصة لهم تتجاوز الكوتة المعطاة لكل دولة، بحيث تكون هناك إجراءات ورسوم وتسهيلات خاصة لهؤلاء المعدمين وخصوصا من كبار السن الذين قد لا يكون أمامهم الكثير من العمر للقيام بهذه الفريضة.
أتصور كذلك أن المسلمين العائدين من الحج عليهم إعادة فهم «غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، فلا أتصور أن الفهم الحرفى مفيد أبدا فى هذه الحالة، ولا أتصور أن يحصل أى إنسان على غفران مسبق وإلا فإن النفس البشرية أمارة بالسوء، وما نراه أن هذا الفهم للأسف ينعكس على التصرفات، فيفعل الإنسان الموبقات، ويتحايل على وسائل الحج، ثم يعود بعد الفريضة إلى سيرته الأولى حتى يقوم بحجة جديدة وهكذا دواليك عملية دائرية ظالمة لا أتصور أبدا أن يقبلها الله أو يقرها الإسلام.
***
الحج فرصة عظيمة لتدبر المعانى لا الطقوس، للتطهر من الذنوب لا للوجاهة الاجتماعية، للتقرب من الله لا من الحكام، لإعمار الأرض لا للولاء السياسى، لو رجع المليونا مسلم الذين يقفون على عرفات فى هذه الأيام وقد تدبروا المعانى السابقة، لتغير الكثير من حال البلدان التى يعيشون فيها سواء كأغلبية أو كأقلية، لسعوا إلى الحق سعيا، لما قبلوا الظلم أبدا وصمموا على ذلك كلما استطاعوا، لحاربوا من أجل إرساء قواعد العدل والحرية، لجاهدوا من أجل مد يد العون إلى الفقراء والمساكين دون انتظار المقابل، لاجتهدوا من أجل حسن معاملة غير المسلمين وتقبلوا حقوق المواطنة كاملة غير منقوصة، لتحسسوا طريق العلم وابتعدوا عن طرق الدروشة والنصب باسم الدين، لتوقفوا عن التدخل فيما لا يعنيهم والفتى فيما لا يفقهون، لقرروا وفورا القضاء على الكهنة الذين يتحدثون ويهيمنون ويتسلطون على حياة البشر بدعوى امتلاكهم الحق الحصرى للحديث باسم الله!
كل عام وكل المسلمين وغير المسلمين بخير وصحة وسعادة، كل عام ومصر أفضل وأجدر وأعلى بسواعد كل مواطنيها المخلصين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى