مقالات واراء

الأكراد يرفعون أعلامهم : أيمن الصياد

في منتصف يناير ٢٠١١، اصطف ملايين السودانيين «الجنوبيين» خارج مراكز الاقتراع للاستفتاء على استقلالهم / انفصالهم عن الحكومة المركزية في الخرطوم. تقول الأرقام المجردة «والدالة» في آنٍ، أن ما يزيد على ٩٧ من الذين لهم حق الاقتراع ذهبوا يومها للتصويت (نحو أربعة ملايين). وأن ما يزيد على ٩٨٪ اختاروا الانفصال / الاستقلال. شىء من هذا يحدث، أو قد يحدث غدا في كردستان (العراق).

متى ندرك أن «المواطنة الحقيقية هي الحل»، وأن فسيفساء التنوع يجب أن تكون مصدر ثراء لا صراع. مصدر تكامل لا تباعد وانفصال

كنا في نهاية ٢٠٠١، كان العراق تحت الحصار بموجب قرار من مجلس الأمن. وكان شمال العراق (الكردي) محميا بموجب تلك القرارات ذاتها. وكان للأمم المتحدة مكتب في أربيل (عاصمة إقليم كردستان). وكان الاتصال بالمكتب، أو العاملين به يتم عبر أرقام هاتف مسجل في نيويورك.

عندما هاتفت أحدهم ذات صباح، ردت عليّ عاملة «البدالة». وعندما علمت أنني أتحدث من القاهرة، وفي انتظار أن يفرغ هاتف من طلبت، أخذتني الفتاة في حوار طويل حول أغنيات أم كلثوم، وأفلام إسماعيل ياسين، وقراءات عبدالباسط عبدالصمد. ثم كان أن اكتشفت في نهاية الحوار «الثقافي» الطويل أنها «كردية». ساعتها اكتشفت مدى ضحالة النظر إلى العروبة على أنها محض قومية أو عرق، لا ثقافة «جامعة». وساعتها اكتشفت كم كانت جريمة كل الذين استخدموا التباينات القومية، أو الطائفية، أو العرقية من أجل إحكام السيطرة على شعوب هي إنسانية بالفطرة، قبل أن تعرف طريقا للشقاق والفرقة تمهده تلك الانتماءات الصغيرة.

هكذا فعلت السلطة في غير زمان وفي غير مكان من عالمنا «العربي». تمييزا وتهميشا وإقصاء، وتمترسا خلف الولاءات الضيقة. ولم تكن العراق بعيدة عن ذلك. ولم تكن قصة أكرادها، أو بالأحرى أكراد الشرق الأوسط (الذين مزقتهم تاريخيا خرائط المستعمرين المنتصرين) بمنأى عن تأثيرات ذلك كله.

عندما أُعلن في يناير ٢٠١١ عن انفصال جنوب السودان، تفرغ العرب يومها، كعادتهم للحديث عن «المؤامرة على العرب والمسلمين». وعلى الرغم من أن بعضا من الإجابة حملته أيامها رياح «الربيع العربي»، لم يسأل أحد يومها السؤال الأهم: لماذا اختار ٩٨٪ من الجنوبيين الانفصال؟ وما الذي فعلته حكومة «اللواء / المشير عمر البشير» لتدفع المواطنين إلى هذا الاختيار؟

***

لم يسأل أحد يومها السؤال الأهم: لماذا اختار ٩٨٪ من الجنوبيين الانفصال؟ وما الذي فعلته حكومة البشير لتدفع المواطنين إلى هذا الاختيار؟

كالتفاصيل في كل القصص، تختلف بالقطع تفاصيل القصة السودانية، عن قصة الأكراد في دولهم الأربع. القصة طويلة، والطريق إلى استفتاء الغد (مهما كانت نتائجه على الأرض) طويل ومتخم بالتفاصيل .. والعناوين.

كما هو حال كل النزاعات الحدودية؛ استقلالا أو انفصالا أو تطهيرا عرقيا (قضية مسلمي الروهينجا مثالا) جاءت مشكلة الأكراد في أصلها من رحم الحقبة الاستعمارية وحروبها. فاتفاقية لوزان (١٩٢٣) المبرمة بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والتي قننت حدود «سايكس بيكو» في المشرق العربي هي التي وزعت الأكراد بين الدول الأربعة: تركيا وإيران والعراق وسوريا. وزرعت معها بذورَ توتر تبايناتِ تنوع فشلت حكومات ما بعد التحرير (العسكرية في معظمها)، بحكم ثقافتها في إدارته.

كانت «قادسية صدام» (١٩٨٠ ــ ١٩٨٨) الموشاة بالشعارات الدينية والتاريخية، والتي اصطف فيها معه «سنة العرب»، أو بالأحرى حكامهم خوفا من وهج «الثورة الإيرانية» ساحة الحرب الأولى للتباينات (والحسابات) العرقية والدينية المعقدة في المشرق العربي. ولم يكن الأكراد الموزعون بين دول (ونظم) تتباين حساباتها بعيدا عن ذلك، كما لم تكن كذلك أحلامهم أو طموحاتهم. وفي مناخات قمع عرف به نظام صدام، كان المشهد معقدا ومتوقعا في آن. ففى حين كان الجيش العراقي يضم أكرادا بين صفوفه، إلا أن قوات من «البيشمركة» على الناحية الأخرى ساعدت الإيرانيين ثأرا من نظام قمعي يحاربونه، وطمعا في ما قد تأتي به نتائج الحرب من اقتراب من هدف استقلال / انفصال يسعون إليه.

أيامها، وفي أجواء توترات حرب لم تكن نزهة كما صورها إعلام البعثيين وقتها، بدأ صدام حسين حملة «الأنفال» كعقاب جماعى للأكراد، تهجيرا واعتقالات وتصفيات، بلغت «ذروتها الدرامية»، إنسانيا وإعلاميا في آخر أيام الحرب عندما قصفت قواته بلدة «حلبجة» الكردية في ١٦ و١٧ مارس ١٩٨٨ مستخدمة السلاح الكيماوي. لتصبح المجزرة، التي راح ضحيتها الآلاف محطة  مهمة في تاريخ الأكراد وفي تاريخ علاقاتهم بمحيطهم العربي، وبدولتهم «المركزية» في بغداد.

وكما كانت حرب صدام مع إيران «محطة كردية» مهمة، كان كذلك غزوه للكويت، الذي قاد إلى حرب الخليج الثانية، التي قادت بدورها إلى فرض حصار دولي، وحظر جوي على العراق، تمتعت المناطق الكردية خلال سنواته الطويلة باستقلالية، وأوضاع أكثر استقرارا من نظام بغداد ذاته، مهدت على الأرض واقعيا لكيان دولة.

كما لم يكن غزو جورج دبليو بوش للعراق في مارس ٢٠٠٣ (بمزاعم واهية)، والذي أسفر عن عراق «مختلف»، لا علاقة له بأمنيات الحالمين أكثر من محطة أخرى في قصة الأكراد الطويلة. ذهب صدام بيده الحديدية الباطشة، ولكنه ترك وراءه إرثا من الأحقاد والثأرات، وأرضا خصبة ليس فقط لتصفية الحسابات القديمة، بل وأيضا للسعي وراء الأحلام القديمة. وكان الأكراد؛ العائشون في حقائقهم التاريخية، وفي ذكرياتهم «الصدامية» الأليمة، أول الحالمين.

لم يستطع دستور المحاصصة الجديد، كما لم يستطع تقاسم سلطة لا تجد أمنها واقعيا إلا في «المنطقة الخضراء»، أو في سياج مسلح من مليشياتها الطائفية أو العرقية، أن يهرب من حقيقة أن هذا مجتمع مثقل بتراث بائس من عنصرية صنعتها عقود طويلة من التمييز والتهميش.. وغياب المواطنة.

في العراق ذي التاريخ الموشي بثراء تنوعه وتراثه العريق، والذي يحاول مرهقا أن ينفض عن كاهله إرث عقود (بل قرون) من الاستبداد واللا مواطنة، كان أن ظهر «الداعشيون»، ليس فقط ليفاجئوا العالم بتأسيس «دولة» بدت حقيقية، بل وليستدعوا كل الثأرات القديمة، وليربكوا المشهد بأكمله. وليستثمر حمقهم الجميع؛ استعماريون جدد، وطامحون إقليميون، ومستبدون تقليديون، ومنقلبون على أحلام «الربيع العربي» في دولة معاصرة حديثة. ووسط كل هذه الفوضى بدت «الفرصة الكردية» سانحة. لا مفاجأة إذن هناك.

***

على هامش القصة، وتفاصيلها، وعناوينها يبقى أنه كما كان نفط «أبيي» كامنا في تفاصيل الحكاية السودانية الجنوبية، كان كذلك نفط «كركوك» في القصة الكردية. وقصة الصراع «الدموي» على إعادة رسم خرائط النفط في المنطقة معقدة ومتشابكة الأطراف. وكما كان لذلك تأثيره فيما جرى، سيكون له بالتأكيد تأثيره على مجريات الأمور بعد الاستفتاء. والتي ستتأثر إجمالا بالآتي:

١ ــ الحرب ضد تنظيم الدولة، والتي شارك، ويشارك فيها الأكراد بجهد لا يمكن تجاهله، كما لا يمكن تجاهل الخبرة العسكرية والعلاقات الدولية التي ترتبت عليه.

٢ ــ هاجس الخرائط الجديدة عند الدول التي يمثل الأكراد جزءا من مواطنيها، وبالأخص تركيا وإيران. إذ تظل سوريا التي لم يعد يعنيها غير الحفاظ على نظامها الحاكم خارج المعادلة.

٣ ــ التقاطعات الإقليمية؛ نفطا ونفوذا (وفي هذا حديث يطول).

وأيا ما كانت ما ستؤول إليه الأمور، وعلى الرغم من إصرار الأكراد على الذهاب إلى صناديق الاقتراع (رغما عن أنف العالم كله)، وعلى الرغم من أهازيج الاحتفالات بما يتصورونه استقلالا اقترب، ستبقى حسابات الحقل ليست هي بالضرورة حسابات البيدر. فكما اصطدمت أحلام الجنوبيين الذين رقصوا قبل سنوات احتفالا باستفتاء استقلالهم / انفصالهم عن الشمال السوداني بحقائق واقع معقد زادته طموحات النخبة السياسية والعسكرية تعقيدا، لست متأكدا أن كردستان «الموعودة» ستكون أفضل حالا من محيطها من ناحية الديموقراطية والشفافية، كأن الداء إقليمي. فالمتابع للتظاهرات الكردية في السنوات الأخيرة لا بد وأن يلحظ أنها لم تكن قاصرة على تلك المنادية بالاستقلال / الانفصال بل كانت أيضا من أجل المطالبة بمجتمع أقل فسادا وأكثر ديموقراطية. أو ما يبدو «لبن العصفور» في مجتمعاتنا تلك.

***

ما لم يفعله الإسرائيليون، فعله «زعماؤنا الأشاوس»

كما يبقى أنه قد يكون لافتا ومربكا للمراقب العربي أن من الأكراد من رفع أعلاما إسرائيلية في احتفالاتهم بالاستفتاء. بعد أن رأوا من منظورهم (أو بيع إعلاميا لهم) أن إسرائيل وحدها دعمت مطلبهم، في حين وقفت الجامعة العربية، ومعها تركيا وإيران ضد ما يعتبره الأكراد (سواء اتفقنا أو اختلفنا) حقهم في تقرير المصير. (لاحظ أن الإسرائيليين لم يعطوا الفلسطينيين أبدا هذا الحق).

لا جدال في أن إسرائيل، لم تكن تريد للعراق أن يظل موحدا قويا، بالضبط كما لا تريد لسوريا، ولا لغيرهما من الدول العربية «القوية»، هذا صحيح بلا شك. ولكن ولتكتمل الصورة، فعلينا أن نعترف بأنه من الصحيح أيضا، أن إسرائيل (أو الكيان المزعوم، كما كنا نقول لعقود) لم تكن هي التي أضعفت أو فتت هذه الدولة أو تلك. بل زعماؤها الأشاوس، بسياساتهم القمعية «التمييزية» الخرقاء التي أدت في نهاية المطاف إلى ما نراه هنا وهناك من نتائج تفتيت وانقسام.. وانهيار.

***

هي أزمة «الهويات الضيقة» يلعب بها الساسة وتجار الحروب، رافعين لافتات عرقية، أو قومية، أو دينية

وبعد..

فربما يكون دالا النظر في مفارقة أن صلاح الدين الأيوبي، الذي دحر الصليبيين، ويعتبره العرب بطلا «قوميا»، يتغنون باسمه، وينحتون له التماثيل، ويخرجون له الأفلام السينمائية، هو «كردي» في نهاية المطاف.

وربما تعكس تلك المفارقة أزمة «الهويات الضيقة»، التي باتت وباء في منطقتنا تلك، وربما في أماكن كثيرة من عالم لم تستطع مجتمعاته بعد (على الرغم من كل ظواهر العولمة، ونظريات الحداثة وما بعدها) أن تحل أزمة «فردانية الهوية» وما يشوبها تلقائيا من «عنصرية».

هي أزمة «الهويات الضيقة» يلعب بها الساسة وتجار الحروب، رافعين لافتات عرقية، أو قومية، أو دينية.

هي أزمة «الهويات الضيقة» تسيل دماءً في شوارع سوريا والعراق واليمن، وتندلع نيرانا في قرى مسلمي الروهينجا الفقيرة، وتنفجر حمقا تحت مقاعد المترو في هذا البلد الأوروبي أو ذاك.

هي أزمة «الهويات الضيقة» حين لا ندرك أن الهوية بحكم طبيعتها مركبة، وأن كلا منا بحكم عرقه، ودينه، ومعتقده السياسي، وعائلته، ومهنته، وجواز سفره، وحتى الموسيقي التي يحبها، أو النادي الرياضي الذي يشجعه له هويات عدة تربطه بكثير جدا من أولئك الذين يبدون «مختلفين» عنه.

ربما كان ذلك «الإدراك الغائب» هو الذي نحتاج إليه اليوم بعد أن بدت سافرة حقيقة فسيفساء التنوع التي عليها مجتمعاتنا، والتي يجب أن تصبح مصدر ثراء لا صراع. مصدر تكامل لا تباعد وانفصال. والحاصل للأسف أننا لن نعرف طريقا إلى ذلك مع كل ما نراه في مجتمعاتنا من تهميش وإقصاء وعنصرية… وتغييب «للمواطنة» الحقيقية.

في التنوع ثراء.. وحين تفشل الدولة أو المجتمع في إدارة التنوع بين مواطنيها، ينفصل / يستقل جنوب السودان. ويحرق الجيش البورمي قري مواطنيه، ويذهب الأكراد إلى صناديق الاستفتاء. وتتوقف «ليلاف» عاملة الهاتف الكردية الصغيرة عن الاستماع إلى عبدالحليم حافظ وأم كلثوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى