مقالات واراء

تلك الرائحة

كتبت : داليا شمس
يروى كيف يصدرون زجاجات المياه المعدنية الفارغة للصين، ويتحدث عن دورة رأس المال العالية كدليل على نجاحهم وعن ورش تدوير النفايات التى يصل عددها إلى 750 ورشة فى منطقة الزرايب بمنشية ناصر. تتعدد الأسماء والمكان واحد: حى الزبالين بجبل المقطم. حين تستمع لكلام الأستاذ عزت نعيم أو غيره من أبناء الحى تفهم أصل مشكلة القمامة فى مصر وتاريخ من يعملون بها، ولكن لا تفهم لماذا لا يتم حلها مع وجود ناس بمثل عقليته، فتكره منظومة الفساد والغباء التى تفوق رائحتها رائحة القمامة. الأرقام حاضرة فى ذهنه، يعرفها عن غيب: نفايات القاهرة الكبرى تصل إلى 25 ألف طن يوميا، جيرانه من المتعهدين يجمعون 18 ألف طن، والشركة الخاصة تجمع أربعة آلاف، والثلاثة آلاف الباقية هى ما نراه مكدسا فى الشوارع وعلى الأرصفة.
فى مقر جمعية «روح الشباب» التى يديرها والتى بدأت بمدرسة لمحو الأمية منذ ثمانى عشرة سنة، يشرح تفاصيل مشروعه القادم الذى يحضر له بمساعدة طالبة دكتوراه مصرية بجامعة بوسطن الأمريكية. هما يعملان على ابتكار تطبيق خاص بالتليفونات الذكية لجمع النفايات، على غرار أوبر وكريم: تتواصل مع عمال النظافة والمتعهدين بشكل مباشر، فيبعثون بأقرب مندوب لهم ليتعامل وفقا لطبيعة ما تريد التخلص منه، وإذا كان المطلوب لا يدخل فى نطاق تخصصهم كمخلفات البناء مثلا، فسيتم تحويلك إلى من يمكنه مساعدتك، أيضا من خلال التطبيق. قد تتبلور معالم المشروع أكثر فأكثر مع الزيارة القادمة لمريم، طالبة الدكتوراه التى تحاول استخدام التكنولوجيا فى جمع القمامة أو فيما يحافظ على البيئة، خلال شهر سبتمبر المقبل.
***
يتخلل كلامه بعض مصطلحات بلغة إنجليزية سليمة، فهو حاصل على بكالوريوس من كلية التجارة الخارجية، والأهم هو ابن سوق ورث المهنة أبا عن جد، وابن نكتة، وحكاء، وشاعر كما يصف نفسه. لديه خبرة من رأى كل «وساخات» البشر، ماديا ومعنويا، فيختصر الطريق ويلخص الأمور بشكل عملى جدا يميز العائلة، على ما يبدو، فخاله هو شحاتة المقدس، نقيب الزبالين الذى طالما ما حاول تقنين أحوال جامعى القمامة ودمجهم فى الاقتصاد القومى.
يأتى الأطفال إلى مقر الجمعية لتعلم القراءة والكتابة والكمبيوتر وللعمل على ماكينة تدوير العبوات البلاستيكية لماركة شامبو وكريم ومنظفات عالمية، تعاقدت مع الجمعية مقابل 100 ألف جنيه سنويا لجمع الزجاجات الفارغة التى تحمل اسمها وفرمها، منعا للغش التجارى. وفى المقر نفسه، هناك من جاء خصيصا لشراء حقائب اليد المصنعة محليا من بعض المخلفات بعد تدويرها، إلى ما غير ذلك، فنحن أمام مجتمع سكانى يصل تعداده إلى حوالى 120 ألف نسمة، وفقا لعزت نعيم الذى تغلب عليه أحيانا نزعة الحكاء ويتبحر فى سيرة أجداده ورفاقهم الذين وصلوا إلى القاهرة، قادمين من الصعيد فى نهاية الأربعينيات، تحديدا من قرية دير تاسا، جنوب شرق أسيوط: كانوا ثلاثة، جده إبراهيم شحاتة (والد شحاتة المقدس) وأبو خيلة وميخائيل شرقاوى (الذى توجه على رأس وفد إلى قصر القبة لمقابلة عبدالناصر عام 1970، عندما أراد المحافظ نقلهم من المقطم، فأقنعوه ببقائهم وسمى المكان منشأة ناصر أو منشية ناصر من وقتها).
***
لكن قبل وصول أجداده، كان «الواحية» أو أبناء الواحات البحرية الذين جاءوا إلى القاهرة واشتهروا بتدميس الفول هم من بدأ قصة جمع القمامة من البيوت والعمارات الراقية، مقابل مبلغ شهرى فى عشرينيات القرن الماضى، إذ كانوا يستخدمونها بعد تنشيفها فى الشمس كوقود فى مستوقدات الفول والحمامات الشعبية القائمة بشارع باب البحر. ظل «الواحية» يحتكرون هذا الكار حتى تبنت الحكومة استخدام السولار والمازوت بدلا من «الوجيد»، وتكدست القمامة فى عزبة الورد بالشرابية حيث كان يتم تنشيفها، وتضرر الأهالى. وهنا ظهر دور الصعايدة عندما عرض الجد ــ إبراهيم شحاتة ــ على «الواحية» التعاون معهم للتخلص من القمامة عن طريق إنشاء زرايب للخنازير والماعز بعزبة الورد، تتغذى على النفايات، فتنتهى المشكلة، إضافة إلى وجود مردود اقتصادى.
من عزبة الورد والبيوت المسقوفة بالكارتون والخيش، انتقلوا بعدها إلى عزبة أبو وافية بشبرا الخيمة، بالقرب من مصنع عبود للأسمدة، فى الفترة ما بين 1957 و1962، ثم طردتهم الرائحة مرة أخرى إلى منطقة البصراوى بإمبابة، ثم تفرقوا بين المناطق: محاجر التنجيزى (أو منشية ناصر حاليا)، وأرض اللوا، وعزبة النخل، حيث توجد حتى الآن مراكز جمع القمامة وتدويرها، وأضيفت لها طرة والبراجيل و15 مايو خلال السنوات التالية، حتى صارت هناك شبكة متكاملة يمكن الاعتماد عليها. وأظن أنه بدلا من البحث عن شريك أجنبى أو محلى يمكن تحديثها وتنميتها وإضفاء طابع رسمى عليها أو تقنين أوضاعها بشكل يسمح بالإفادة من الخبرات المتراكمة وخلق فرص عمل، بدلا من أن يتحول بعض أفراد هذه الفئة إلى مجرد «نباشين» يقلبون صناديق الزبالة بحثا عما هو قابل لإعادة التدوير وعن لقمة العيش.
تطاردهم لعنة تلك الرائحة التى لم تعد تزكم الأنوف، فى حين أنهم الأقدر على التعامل مع المشكلة وتقديم حلول عملية بحكم خبرة السنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى