مقالات واراء

… الذين غابت أسماؤهم

انشغلت الصحف بالكتابة عن الذين أُفرج عنهم بقرار عفو رئاسي قبل أيام. ومهنيا، لا يكتمل خبر، إلا إذا استُكملت جوانبه. فهل تسمحون لي أن «أستكمل الصورة» هنا بأن أكتب عن الذين غابت أسماؤهم.

لا أعرف عدد الذين دخلوا السجون المصرية، بعد الثالث من يوليو ٢٠١٣ دون أن يحملوا سلاحا، أو يضعوا عبوة متفجرة على جانب الطريق. كما لا أعرف حتى عدد أولئك المغيبين خلف القضبان في قضايا ذات خلفية سياسية تتصل بالتعبير عن الرأي؛ أيا كانت وسيلته (تغريدة، أو قصيدة شعر، أو رأيا على الإنترنت، أو «متعاطفا» مع فكرة، أو وقفة احتجاجية، أو تظاهرة «سلمية»)، وأيا ما كان موضوع الرأي (الظلم، أو التمييز، أو السياسات الاقتصادية، أو «تيران وصنافير»).

لا أعرف عدد هؤلاء. ففي دولة لا تعرف الشفافية، لن يمكنك أن تعرف عدد الذين غُيبوا خلف القضبان في مثل تلك القضايا، أو ما شابهها. ولكني أعرف أن رئيس الجمهورية أقرَّ أكثر من مرة، على مدى سنوات حكمه الثلاث بأن هناك «مظلومين» داخل السجون.

لا أعرف عدد هؤلاء. الذين يتحدث عنهم (هكذا) الرئيس، ولكنني أعرف أن «الظلم يؤذن بخراب العمران» كما علمنا ابن خلدون. وأنه «يحجب الرزق، ويمنع البركة» كما علمتني جدتي الريفية البسيطة رحمها الله. وأنه «ظلمات يوم القيامة» كما قرأنا في الأثر.

لا أعرف عدد هؤلاء. ولكننا نعرف أن هناك (٢٠٣) تكرم الرئيس، فأصدر قرارا بالعفو عنهم في ١٣ مارس ٢٠١٧، كدفعة ثانية بعد أن كان قد وعد بذلك في ٢٧ أكتوبر ٢٠١٦ (الدفعة الأولى شملت ٨٢ اسما). كما نعرف مما جرى من «سهو» في نشر القائمة في بداية الأمر مع «التصنيف الأمني» لشاغليها، على أي أساس تتخذ مثل هذه القرارات.

على القائمة، لم أَجِد اسم «هشام جعفر»، مثل كثيرين جدا  (ربما لن تكفي صفحات هذه الجريدة لتعداد أسمائهم) غابوا عن قائمة الأسماء المائتين وثلاثة. ولكني أعرف أن الباحث الخلوق (كآخرين مثله) محبوس «بلا محاكمة» منذ ٢١ أكتوبر ٢٠١٥. وأن السجن يكاد يذهب بما تبقى من بصره نتيجة لمرض مزمن في العصب البصري. وأن هناك من بخل عليه بعلاج يستحقه في مستشفى السجن فقرر أن ينقله إلى سجن العقرب. كما كتبت زوجته «الأستاذة الجامعية» قبل أيام.

لن أكتب هنا عن هشام جعفر؛ الذي نسفت دوائر قريبة من الإخوان المسلمين مشروعه الفكري المتميز «لتجديد الخطاب الديني» قبل سنوات، فكثير من الأساتذة سبقوني في الكتابة عنه، وعن مشروعه الطموح Islam online (منهم عمرو الشوبكي، وعمرو حمزاوي، وحنا جريس، وكارم يحيى في الأهرام .. وغيرهم) ولكني هنا أكتفي بأن أرتكب جريمته ذاتها، بأن أنشر بعضا من أفكاره التي لا أعرف كيف (وتلك أفكاره) وجد طريقه في نهاية المطاف إلى سجن بلا محاكمة.

***

هذا المقال ليس عن هشام جعفر تحديدا، وإن بدا غير ذلك. فالرجل ليس أكثر من مثال للكثيرين مثله الذين قد نعرف بعضهم، وللأسف لا نعرف الكثيرين

منذ نحو عشر سنوات شارك الباحث الجاد بدراسات متعمقة ضمها كتابان شهيران حررهما الدكتور عمرو الشوبكي، وصدرا (بتمويل من مؤسسة فريدريش آيبرت الألمانية) عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وقت كان الدكتور عبدالمنعم سعيد يترأس مجلس إدارته. أحد الكتابين تناول «إشكاليات بناء تيار إسلامي ديمقراطي»، أما الثاني فكان عن «أزمة الإخوان المسلمين»، وتناول فيه هشام تجربة الإخوان في العمل النقابي معتبرا أنهم نحوا منحى النظام الحاكم ذاته في محاولة «تأميم» العمل النقابي؛ سيطرة وتسييسا واستخداما «في محاولة لإيجاد منبر سياسي يتسم بالمؤسسية والعلنية» كحل لمشكلة الحظر الرسمي لنشاط الجماعة المستمر منذ عقود. ومنتقدا غلبة الممارسة السياسية الزاعقة والدعائية، والحرص على إشراك الرموز والقيادات الإخوانية يلاحظ هشام في دراسته كيف غابت القدرة على «العمل المشترك» بين الإخوان والقوى النقابية والسياسية الأخرى في ظل انعدام الثقة المتزايد بين الطرفين.

***

بالإضافة إلى كونه واحدا ممن وقفوا بجهودهم عام ٢٠١٢ وراء إصدار «وثيقة الأزهر للحريات» المدافعة عن حقوق المرأة وحرية العقيدة، والنابذة لأفكار متطرفة كانت قد تسربت لمجتمعنا منذ سبعينيات القرن الماضي، كما بالإضافة إلى مشاركته في «لجنة العدالة الوطنية» التي أُنشئت بقرار من عصام شرف، رئيس الوزراء، لوأد رياح فتنة طائفية بدت نذرها في الأفق بعد أحداث قرية الماريناب / أسوان وما تلاها من دماء أُريقت استعراضا للقوة أمام ماسبيرو. كان هشام جعفر منشغلا على الدوام (حتى جرى تغييبه خلف القضبان) بقضايا الحريات الدينية وقبول الآخر. في يناير ٢٠١١ قرأنا له في هذه الجريدة عن ما أسماه ظاهرة «فائض التدين»، والتي تسببت حسب ما ورد في مقاله في مجموعة من الظواهر الثقافية، وصفها بالخطيرة، وعددها فيما يلي:

ــ الحساسية للاختلاف الديني والثقافي بمعنى عدم الاعتراف بالاختلاف أو القبول به، ناهيك عن احترامه.

ــ التمركز حول الذات الثقافية ـــ الدينية بمعنى الحكم على الآخرين وفق معايير الثقافية التي تحولت إلى معايير ضيقة.

ــ التمييز: التفرقة في المعاملة.

ــ التحامل: تشكيل لرأي أو موقف شعوري دون سبب أو تفكير مسبق أو معرفة كافية.

ــ النمطية والتعميم الثقافي / الديني أي النظر إلى المسلمين والمسيحيين باعتبارهم كتلا مصمتة لا تحوي داخلها أى اختلاف أو تنوع.

وبعد أن يؤكد على قيمة التنوع، وحتمية قبول الآخر في مقاله هذا، يعود الكاتب الصحفي (المحبوس بتهمة التطرف) ليناقش في مقال آخر (يناير ٢٠١٢) مسألة الخلط بين الدعوي والسياسي عند الجماعات السلفية كما عند «جماعة» الإخوان، منبها إلى خطورة الخلط بين المطلق والنسبي، والذي تجلى ــ حسب ما يقول في مقاله ــ عند كثير من الحركات الإسلامية التي دخلت العمل السياسي «غافلة أو متغافلة أن لكل طرح مقتضياته وشروطه».

***

لن تسمح مساحة هذا المقال بالتأكيد لعرض مجمل النتاج الفكري للباحث الجاد، كما لن تسمح بإشارة وافية لما قدمه على مدى عشر سنوات كاملة بمشروعه الفكري المتميز المتمثل في تجربة Islam online والتي نجحت في حينه في تقديم تجربة صحفية «مهنية»، وجهدا فكريا جديدا ورصينا. وأذكر على سبيل المثال مبادرتهم بالوقوف أمام افتعال المتطرفين «والشعبويين» على الجانبين لأزمة «المآذن السويسرية» ــ نوفمبر ٢٠٠٩. وقتها أصدرت Islam online كتابا شارك في تحريره الراحل النبيل حسام تمام، والباحث السويسري المتخصص باتريك هاني، وكنا قد نشرنا في حينه للكاتبين مقالا حول الموضوع في «وجهات نظر»، ربما نحتاج إلى إعادة قراءته وسط ما يبدو من أجواء استحضار لحرب مفتعلة بين الإسلام والغرب، تقترب نذرها الفكرية والاجتماعية يوما بعد آخر.

………

الثابت إذن، وبغض النظر عن تحفظي المبدئي على «المصطلح» الدعائي الرائج، فالخلاصة أنك لا يمكن أن تضع عنوانا لمشروع هشام جعفر (المحبوس منذ ٥٠٠ يوم بلا محاكمة) غير «تجديد الخطاب الديني»؛ العنوان / المصطلح الذي لأسباب مفهومة بات يملأ فضاءنا الفكري.. فهل هناك مفارقة أكثر من ذلك. وهل هناك إجابة أوضح من ذلك عن أسئلة العدل والظلم في مصر الآن؟

***

رغم أن الغرائب حولنا تراكمت، حتى لم يعد هناك ما تستغربه في مصر (رحم الله المتنبي)،  سيظل محيرا لمراقب مثلي، حتى وإن لم أكن قد عرفت هشام جعفر أو اطلعت على نتاجه الفكري، أن أجد اتهاما للرجل بالتطرف الديني، ثم أقرأ ما كتبه عنه دكتور حنا جريس؛ البرلماني القبطي من أنه «لو كانت هناك شهادة تعطى للمواطن الصالح في مصر لكان الأجدر بها هشام جعفر». ولمن لا يعلم، فقد كان الدكتور جريس (صاحب الشهادة) عضوا في المجلس الاستشاري الذي كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد اختار أعضاءه في ديسمبر ٢٠١١. شهادة الليبرالي القبطي عن هشام جعفر لم تختلف في مضمونها عن ما ورد في رسالة من «مجلس الكنائس العالمي» موجهة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي في ٢٨ إبريل ٢٠١٦ تستغرب أن يوصف الباحث القابع في السجن بلا محاكمة بأنه من مؤيدي الأفكار المتطرفة. رغم ما نعرفه من «التزامه بالعمل الإنساني ومشاركته الإيجابية في الحوار والتفاهم بين الأديان، وانشغاله بحل النزاعات».

 ***

نعرف أن للحبس الاحتياطي «ضرورة قانونية»، ولكن لا ينبغي بحال أن يتحول واقعيا إلى «اعتقال مقنن»، أو عقوبة بلا حكم

يبقى أنه ربما كان من الواجب، ومقتضيات الحال والواقع أن أؤكد أن هذا المقال ليس عن هشام جعفر تحديدا، وإن بدا غير ذلك. فالرجل ليس أكثر من مثال أردت أن أضربه للكثيرين الذين نعرفهم، أو لا نعرفهم. والذين كان أن قادتهم سياسات ما بعد الثالث من يوليو ٢٠١٣ إلى غياهب السجون. وأغلبيتهم الساحقة «بلا محاكمة»، وأحيانا حتى بلا قرار اتهام، بعد أن أصبح «الحبس الاحتياطي» واقعيا، وكأنه «عقوبة بلا محاكمة» تحيد به عن طبيعته الاستثنائية، بما يمثله ذلك «واقعيا» من استهانة بقواعد الشرعية الدستورية التي لا تجيز توقيع عقوبة إلا بحكم قضائي وبعد محاكمة عادلة تتوافر فيها للمتهم ضمانات الدفاع عن نفسه. وبما يناقض، شرعا وعُرفا ما نعرفه مما استقرت عليه محكمة النقض من قواعد للعدل تقضي بأنه «لا يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الافتئات على حريات الناس وحبسهم دون وجه حق» (الطعن رقم ٣٥٤٠٨ لسنة ٧٧ ق)

نعرف أن للحبس الاحتياطي «ضرورة قانونية» ولهذا أجازه المشرع. ولكننا نعرف أيضا أنه ككل ضرورة لها ضوابطها كما اشتراطاتها. وأهمها، (كما يُذكرنا المستشار سري صيام، والدكتور فتحي سرور في كتاب عرضت له هنا في سبتمبر من العام الماضي) أن «لا يتحول بحال إلى عقوبة، أو تدبير احترازي هو في مصاف العقوبات». وأظن أننا جميعا لسنا بحاجة إلى من يذكرنا قبل ذلك كله ببدهية أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته». وأن هذه الإدانة (وحتى تستقيم العدالة) لا يمكن أن تكون بإجراء يستند إلى تحريات مرسلة، أو تقارير «أمنية» نمطية، تتشابه عباراتها، ولا تتغير فيها غير الأسماء.

نعرف أيضا أن القواعد القانونية المستقرة لا تسمح لمظلة العفو الرئاسية تلك، «تقنيا» أن تمتد إلى أولئك المحبوسين احتياطيا، ولكننا نعلم أيضا أن «للواقع المصري قواعده وأعرافه»، كما نعلم من التجارب السابقة، أن «الدولة» في مصر لا تعييها الوسائل أبدا. ثم إننا قبل ذلك كله نعرف أن المادة ١٥٥ من الدستور تسمح بقوانين «العفو الشامل». التي عرفتها الإنسانية، قبل أن يعرفها التاريخ السياسي المعاصر، ضمن حزمة الإجراءات الضرورية اللازمة في مراحل التحول، وفي أعقاب الثورات كوسيلة لفتح صفحة جديدة، وصولا إلى ما يصبو إليه أي مجتمع من استقرار «وسلام اجتماعي». هذا إن كان هناك حقًّا من يريد لنا «سلاما اجتماعيا»، أو قرأ عن الطريق إليه.

***

وبعد..

فتبقى في ملف قضية المحبوسين، والعفو «والعدل والظلم» في بر مصر ثلاث ملحوظات، أشرت إليها هنا غير مرة:

١ــ أن حديث الرئيس المتكرر عن حقيقة أن هناك «مظلومين داخل السجون» لا يكتمل إلا بقرارات وإجراءات «متكاملة» لرفع الظلم الواقع عن «كل» أولئك المظلومين؛ بلا تمييز؛ سمعنا عنه في تصريحات رسمية للأسف. وكلنا ندرك، تعريفا «أن لا عدالة مع تمييز».

٢ــ أن المعنى البسيط والمباشر لكلام الرئيس، ولقرارات واجبة للعفو: أن في ثقافة مجتمعية باتت حاكمة، كما ربما في منظومة العدالة وإجراءاتها ما بات يسمح، إن لم يكن يدفع بهؤلاء «المظلومين» حسب تعبير الرئيس نفسه إلى غياهب السجون. ومن ثم إلى التطرف يأسا، أو العنف ثأرا.

٣ــ أنه، ومع كل التقدير لقرار يصدر أو ينتظر صدوره بالعفو عن هذا أو ذاك، ومع كل الاحترام لمشاعر عائلة تنتظر مثل هذا القرار، فما نعرفه، ونكرر التأكيد عليه أن نظاما للعدالة يقوم على الحقوق والواجبات واحترام «حقيقي» للدستور والقانون هو سمة المجتمعات المعاصرة، وليس ذلك الذي يقوم على انتظار «منحة» من الحاكم، أو التماس «عفوه». أما دولة «السلطة المطلقة» التي تقوم على الوالي الذي يمنحُ العطايا إذا رضى، وينادي على سيافَه إذا غضب، فلا أظنها تنتمي إلى عصر نعيشه.

كما أنني (وحتى إغلاق هذا الملف، بإقرار العدل واستقراره، والتزاما بوعد قطعته أمام كل من اتصل بي من عائلات المحبوسين، أو من أولئك الذين تم الإفراج عنهم بعد أن جربوا معاناة السجن) لن أمل من تكرار ما كتبته يوم قرار العفو الأول: «وإن كان من الجميل أن يخرج ولو مظلوم واحد من سجنه، إلا أن الأجمل أن يخرج كل المظلومين. أما الأفضل من هذا وذاك هو ألا يكون لديك نظام يسمح أصلا بحبس المظلومين.»

أعرف أن فينا (ولا أبرئ نفسي) من سيقرأ هذا المقال، ثم يضع الجريدة جانبا، وينصرف إلى حال سبيله. إذ لن يعرف الظلم حقًا إلا من يكابده. وقانا الله شر الظلم.. «وظلماته».

ـــــــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى