مقالات واراء

“الراوي في روايات نجيب محفوظ”.. هكذا تكلم صاحب نوبل : محمد فايز جاد

الراوي في روايات الروائي الراحل نجيب محفوظ (1910 – 2006) يبدو أحد العناصر التي لم تنل حقها من الدراسات الأكاديمية المكثفة، رغم أهمية هذا العنصر في أي عمل سردي، ورغم أهمية الكاتب نفسه التي تفرض تناولًا نقديًا كبيرًا لمبدع مثلت تجربته نقلة شديدة الأهمية في تاريخ الأدب العربي.

ويبدو أن هذا التناول الضئيل كان دافعًا للكاتبة د.نجاة علي لطرح كتابها “الراوي في روايات نجيب محفوظ” الصادر مؤخرًا عن سلسلة “كتاب الهلال”، والذي كان في الأصل أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه.

تشير د.نجاة علي في مقدمتها للكتاب إلى أن الدراسات في أعمال محفوظ التي توفرت لديها لم تتضمن “. . . دراسات أكاديمية قامت بدراسة الراوي بشكل موسع في روايات نجيب محفوظ بالتصور أو المنهج اللذين نطرحهما في هذا السياق” حيث إن “. . . أغلبها قد ركز في التحليل على رواية أو روايتين، كما أنها لم تتناول أنماط الراوي المختلفة وأنواعه المتعددة في بقية الروايات”. هذا التناول الجزئي غير المكثف للراوي في روايات أحد أهم كتاب الرواية العربية يبدو مثيرًا للتساؤل، بخاصة أنه – الراوي- “العنصر الرئيس لدراسة بنية السرد الروائي، والمشكل لبقية العناصر السردية الأخرى، وهو المتحكم في شكل البنية وتأليف الخطابات…”

 الكتاب المقسم إلى أربعة فصول يحاول دراسة الراوي في روايات محفوظ خلال التحولات التي ستطرأ على هذا العنصر بالتوازي مع التحولات التي تطرأ على التجربة المحفوظية برمتها مارة بأكثر من مدرسة.

تلقي د.نجاة علي نظرة شاملة على رحلة محفوظ الإبداعية خلال روايات رأتها هي العلامات المميزة للمراحل الأساسية في مشواره الأدبي، وهي: زقاق المدق (1947)، أولاد حارتنا (1959)، ميرامار (1967)، المرايا (1972). يبدأ محفوظ رحلته – بعد تجاوز الكتابات التاريخية- في “زقاق المدق” براو عليم يناسب مرحلة الواقعية، مرورًا براو يتراوح بين الشاهد والعليم في “أولاد حارتنا”، ثم ترك المجال لرواة متعددين بوجهات نظر متعددة في “ميرامار”، وانتهاءً بحالة “التشظي” في “المرايا”.

تعيد الكاتبة الاعتبار للمدرسة الواقعية التي سادت أعمال محفوظ التالية للمرحلة التاريخية، هذه المدرسة التي يبدو المفهوم المنتشر عنها، بقصد أو غير قصد، مفهومًا يصورها بصفتها المدرسة التي “تعطي الدوافع الاقتصادية أو الجنسية من حيث حضورها في السلوك البشري”، الأمر الذي استخدم وسيلة للهجوم على روايات محفوظ في تلك الفترة، التي وصفها البعض بأنها تعمد لتصوير القاهرة بأنها “مدينة للدعارة والفجور” لتصويره عددًا من الشخصيات الانتهازية أو المنحرفة أخلاقيًا، لتحدد الكاتبة، استنادًا لمفهوم الناقد الفرنسي رولان بارت عن هذه المدرسة “مفهوم الواقعية عند نجيب محفوظ، الذي ميز شخصياته الروائية بأنها واقعية النمط الإنساني في إطار الأكثرية المطلقة. . .”

تلجأ نجاة علي إلى مصطلح “جماليات القبح” إلى تتبع سعي صاحب “الحرافيش” إلى “أن يطرح جماليات جديدة على الرواية وعلى القارئ العربي”، مستخدمًا هذه النماذج المشوهة، الناتجة بطبيعة الحال عن الوضع الاجتماعي آنذاك. غير أن محفوظ في طرحه ذلك لم يقع في شرك الفهم الأول للواقعية أي التي تنظر للحياة فقط “من جانبها الأسوأ”، كما يقول إيان واط، الذي يراها بذلك “لا تعدو كونها رومانسًا مقلوبًا”. فالراوي بتعليقاته الكثيرة كما تلفت نظرنا الكاتبة لا يفوت أية فرصة للتدخل بالتعليق الأخلاقي على سلوك شخصياته الشاذ، ليبدو محفوظا – حسبما تذهب الكاتبة- مسرفًا في القسوة على شخصياته.

“المرايا” إحدى الروايات التي يستطيع القارئ أن يلحظ فيها نشاط الراوي وتدخلاته، وهو ما ينعكس في تحليل الكاتبة لموقف الراوي من الشخصيات التي تضمها الرواية ذات البناء الممزق، وهي النص الذي لم يوافق محفوظ في الأصل على وصفه بالرواية.

تبدو هذه الرواية أقرب إلى السيرة الذاتية، والقارئ للكتابات التي كتبها تلاميذ محفوظ عنه يستطيع من خلال هذه الكتابات أن يتعرف إلى كثير من هذه الشخصيات التي مرت بحياة محفوظ؛ فمنها من حظي بشهرة كبيرة، مثل شخصية الناقد الذي سيصير متطرفًا بعد ذلك (الكاتب الراحل سيد قطب) وغيرها من الشخصيات. هذا الطابع يضفي على النصوص التي تضمها “المرايا” نوعًا من الذاتية يبدو أشبه بالتذكر أو كتابة سيرة مبعثرة، الأمر الذي لا يجعل القارئ في حاجة لاستخدام الحيلة لإخفاء صوت راويه.

غير أن د.نجاة علي لا تقع في فخ المعرفة المسبقة بهذه الشخصيات، ولا توحد بين محفوظ وبين راويه، لتتعامل مع النص الأدبي نفسه مستخرجة ما تسعى إليه من دور للراوي من خلال التقنيات الأدبية التي استخدمها الكاتب، لا من خلال مقارنة بين صورتين.

البحث عن الإيديولوجيا في روايات نجيب محفوظ عملية شهدت جدالًا كبيرًا بين مدارس مختلفة، استنطقت كل منها نصوص محفوظ لينطق بإيديولوجيتها، الأمر الذي يدفع الكاتبة للتساؤل حول السبب في هذه القراءات المتعددة والمتباينة لأعمال صاحب نوبل: هل سببها ثراء النص الروائي، أم أن هذه الدراسات – المؤدلجة في كثير منها بطبيعة الحال- حملت أعماله أكثر مما تحتمل. إن أية قراءة سردية – حسبما تذهب الكاتبة- ستظل ناقصة ما لم تقترن بالتأويل “شريطة أن يعتمد ذلك التأويل مقولات التقنية ذاتها ويعي وظائفها”.

في الفصل المعنون بالإيديولوجيا تتبع علي الإيديولوجيا السائدة في أعمال محفوظ مفرقة في البداية بين مفهومي الراوي السارد، والمؤلف الضمني (الأنا الثانية للكاتب) الذي “يتحول إلى بناء ينجزه ذهننا بمساعدة الحكاية المنقولة إلينا”، وتخلص إلى أن المسافة بين المؤلف (نجيب محفوظ نفسه) والمؤلف الضمني تختفي في أحيان كثيرة، مستندة إلى اشتراك كليهما في مجموعة من القيم والمبادئ المتمثلة في قيم الوفد بليبراليته وتسامحه.

في الفصل نفسه تتبعت الكاتبة التغيرات التي طرأت على راوي محفوظ، بدءًا من الراوي العليم العارف بكل شيء في “زقاق المدق” النموذج المعبر عن المرحلة الواقعية، هذا الراوي الذي لا يتورع عن التدخلات المتكررة والتعليقات البارزة، ثم الخليط بين الراوي الشاهد والراوي العليم في “أولاد حارتنا” الرواية الأليجورية حسب وصف د.جابر عصفور، ذات التأويلات المتعددة والمتباينة، والراوي المتعدد في رواية “ميرامار” البولفينية حسب باتين، و”تشظي الراوي” في “المرايا”.

ومما يحسب للكتاب في هذه الجزئية عدم وقوعه في فخ الكتابة الدفاعية عن محفوظ فيما يخص “أولاد حارتنا” هذه الرواية التي أشعلت حرائق كادت تنتهي بمقتل محفوظ. فالكاتبة تمضي بهدوء – وإن عرجت بالطبع على الخلاف حول الرواية- لمناقشة التقنيات التي استخدمها الكاتب في هذه الرواية التي مثلت نقطة تحول في مسيرته، غير منحازة بشكل مطلق لأي من التأويلات على حساب الآخر.

الكتاب يبدو محاولة لدراسة عنصر شديد الأهمية في العمل الأدبي، ربما لم يحظ بالدراسة المتأنية والدقيقة والشاملة من قبل. ورغم صعوبة الإلمام بهذا الموضوع في كتاب واحد فإنه يعد محاولة مهمة تفتح الباب للجدل مع طرح الكاتبة ما يبشر بكتابات موسعة مقبلة في الاتجاه نفسه. وأشارت الكاتبة إلى أنها عكفت على مراجعة الكتاب لتبسيطه قبل طرحه للقارئ العادي، غير أن نشر الدراسة في “كتاب الهلال” اضطرها لمزيد من الحذف الذي ربما يبدو أنه حرم الدراسة من جزيئات غير قليلة لو أنها نشرت كاملة لزادت الكتاب ثراءً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى