مقالات واراء

محمد البساطي.. الليل عالم آخر

لعل محمد البساطي انتبه إلى كنز سردي ارتاده كتاب كثيرون، ولكن أحدًا منهم لم يبدع كما أبدع البساطي في رسم معالم الليل، الريفي منه خاصة، وذلك ما صوره بالكلمات في لوحات عديدة متكاملة تحت ما سمي رواية “ساعة مغرب”.

“في الليل تختلف الأشياء. تختلف مواصفات الرجال والنساء. تختلف الحركة والضحكة والبكاء. تختلف الأشغال والأعمال. فالرجل الذي يكدح في النهار ويشتغل أشغالًا شاقة، قد تجده رجلًا آخر، يقضي الليل وهو يشرب المعسل بالجوزة المحشوة بالشيء الفلاني، وقد تجده يقضي الليل وهو يصلي ويتهجد. وقد تجده يحكي الحكايات أو يسرد القصص، أو يستمع إلى حكواتي السهر، وقليل منا يقضي الليل مستشعرًا متعة القراءة. وأما النساء، فحدث ولا حرج عن كونهن؛ المحصنات الغافلات، أو الغسالات الطباخات النافخات، أو الراقصات المسخنات لأزواجهن أو أزواج الأخريات، وذلك لإتمام الليلة على خير”.

 انتبه الروائي القاص محمد البساطي لمثل هذه الملامح، فرسمها خير رسم في تجميعه القصصي الروائي هذا. وبصفته ابن قرية الجمالية، حيث بحيرة المنزلة، وجار الترع والقنوات المائية، وسيقان البوص ونباتات البردي، فلقد استطاع أن يرسم كل هذه المعالم القروية بالكلمات.

صحيح أن كثيرًا من الكتاب سبقوه في هذا المضمار الليلي، مثل قول المتنبي:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ومثل ما نسمعه من كلمات محمود أبو الوفا، غناء محمد عبد الوهاب:
عندما يأتي المساء
ونجوم الليل تنثر
اسألوا الليل عن نجمي
متى نجمي يظهر
عندما تبدو النجوم في السما مثل اللآلي
اسألوا هل من حبيب عنده علم بحالي….

وأغنية وديع الصافي:

الليل يا ليلى يعاتبني
ويقول لي سلم على ليلى
الليل لا تحلو نسائمه
إلا إذا غنى الهوى ليلى
لأجلك يطلع القمر
خجولا كله خفر

كثيرون تغزلوا بالليل ورسموا أبعاده، بقصيدة أو قصة قصيرة، أو رواية، ولكن أحدًا لم يبدع في تجميع هذه الليالي الريفية كلها في مجموعة قصصية، أو رواية واحدة اسمها “ساعة مغرب” فيجعلنا ننتبه إلى أن (الليل عالم آخر) غير النهار. وكما قال شكسبير في مسرحيته “هاملت”: “غداً يوم آخر”، فإن محمد البساطي لم يقل ولكنه صور لنا أن “الليل عالم آخر”

ولمن لا يعرف الكثير عن محمد البساطي نقول: نشر البساطي أول قصة له عام 1962م، بعد أن حصل على الجائزة الأولى في القصة من نادي القصة بمصر. وللبساطي نحو عشرين عملًا ما بين الروايات والمجموعات القصصية. ومن رواياته: “التاجر والنقاش” (1976) ،”المقهى الزجاجي” (1978)، “الأيام الصعبة” (1978)، “بيوت وراء الأشجار” (1993)، “صخب البحيرة” (1994)، “أصوات الليل” (1998)، “ويأتي القطار” (1999)، “ليال أخرى” (2000)، “الخالدية”، و”جوع” والتي رشحت للفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الثانية.

وله عدة مجموعات قصصية منها: “الكبار والصغار” (1968)، “حديث من الطابق الثالث” (1970)، “أحلام رجال قصار العمر” (1979)، “هذا ما كان” (1987)، “منحنى النهر”(1990)، “ضوء ضعيف لا يكشف شيئًا” (1993)، و”ساعة مغرب”(1996).

ومن ضمن هذه القصص المجمعة في كتاب تحت عنوان “ساعة مغرب”، نقرأ قصة مبارزة، وفيها يرسم البساطي “البطل” -الحاج شلبي- أنه استحم بيدي زوجته التي كانت تليفه في كل الجبهات، وهي تغني له… وقد أعدت له عشاء من فخذيّ خروف مشويين ومشتقاتهما، فيأكل بلا إفاضة، ثم يسترخي حتى الساعة الحادية عشرة ليلًا ليتجه إلى مبارزة شرب الجوزة.

هكذا هم الأبطال في بلادنا، أبطال شرب الجوزة بالمعسل المحشو بالمخدرات. إنهم أبطال مختلفون عن عنترة بن شداد، وعن أخيل، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم كثر. ولهذا السبب لم أعد أومن بمفهوم (بطل الرواية، أو بطل القصة) فاستبدل ببطولتهم كلمة (الشخصية)، لأن أبطال اليوم لم يعودوا أبطالًا بمفهوم الأبطال. المصيبة أن من يشرب المخدرات هو (حاج) من حجاج بيت الله الحرام، الذين يعودون بلا ذنب، ليبدأوا حياة التقى والورع.

تستمر المبارزة بين الشخص الرئيس في القصة، وهو الحاج شلبي، وبين الأسمر، بحرق كل منهما أربعين حجرًا (جوزيا – إذا صح التعبير) محشوة بـ(الصنف)، ثم الدورة الثانية للمبارزة بأربعين حجر أخرى لكل منهما، ثم الثالثة والرابعة والسادسة، حتى ينفجر غريمه هاربًا من مواصلة المبارزة، ويقف مبتعدًا وهو يتأرجح، فإذا به يخر مغشيًا عليه. يحملونه في تابوت، ويخرجون به.

لقد أبدع محمد البساطي في رسم مجتمع الفلاحين المصري، وقد كان نجيب محفوظ يرسم مجتمع المدينة بين القصرين، و زقاق المدق وغيرها، وحتى تصويره الليل في رواية “ثرثرة فوق النيل” فهو ليل المدينة. ولكن ليل القرية، يختلف تمامًا، فأهل القرية مستضعفون، وليس لهم قول في السياسة، بينما شخصيات المدينة معظمهم قادة كل في ميدانه، حتى ولو كان محاسبًا في بنك، أو مراقبًا في محطة باب الحديد القاهرية. هم صناع قرار. وأما رجال القرية ونساؤها، فهم ليسوا سوى مصدر للفول وقصب السكر والذرة والأرز الذي يلتهمه أهل المدينة. ولذلك تجد أن قصصهم تختلف عن قصص أهل المدينة، وكُتّابهم غير كتاب أهل المدينة.

ولهذا تميز الروائي القاص محمد البساطي، ليكون في قامة الروائي القاص نجيب محفوظ، ولو أنه لم يحصل على جائزة نوبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى